بقلم الحقوقي حمزة محمد دياب
خاص لمجلة “كيو بزنس”..
يشكل البحر مصدر ثروة هائل ما فتئت الشعوب والحضارات تهتم به منذ أقدم العصور. وسيلة التلاقي بين الأمم التي تتطور اطراداً مع التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يقود البشرية إلى الإنفتاح والتبادل في الأفكار والمعلومات والسلع والخدمات والأشخاص. إنه النقل حركة مفروضة على الإنسانية قديماً وحديثاً، نتكلم عن 70% من مساحة الكرة الأرضية ما يعني شبكة مواصلات ضخمة إن غرف الإنسان من دقائقها كسب واكتسب، نقل وانتقل من الجمود نحو الأفق والعالمية.
عرف النقل عبر العالم وسائل متعددة كان أبرزها وأقدمها النقل البحري الذي يتسم بصفات تجعله متقدماً على سائر وسائل النقل الأخرى من سرعة نسبية، تخصص في نقل أنواع معينة من البضائع، كبر حجم الشحنات المشحونة على سطح السفن الحديثة المتخصصة، انخفاض سعر النقل وتكاليفه، ناهيك عن الإستخدامات العسكرية من غواصات وناقلات طائرات وغيرها، والإستخدامات العلمية، الرياضية، الترفيهية…إلخ
هذا التسارع العلمي التكنولوجي الحديث كان لابد أن يحدث انقلاباً في الموازين التي تتحكم في هذه الوسائل. وقائع هامة وسريعة أفرزت ضرورة ملحة في تقدم وسيلة سريعة لحل أي نزاع ينشأ عن هذا التخصص المتقدم السريع في مجال النقل البحري. سرعان ما تصدى التحكيم كوسيلة قانونية لمعالجة أي نزاع يطرأ في ميدان التجارة البحرية حيث تنقسم هذه النزاعات البحرية إلى نزاعات عقدية تنتج عن عقود النقل بنوعيها ( مشارطة ايجار أم سند شحن) أو غير عقدية تقصيرية نابعة من مخاطر البحر من تصادم، خسائر، غرق… إلخ
لذا سارعت العديد من المراكز الدولية المتخصصة في التحكيم إلى تضمين عقود النقل البحري بنوداً تحيل النزاعات الناشئة عن هذه العقود إلى التحكيم وفق لوائحها وأنظمتها. هذا التخصص يكمن في عدة أمور نسردها سريعا للإضاءة على مخاطر وتبعة هذه البنود.
أولاً على صعيد مكان التحكيم
يمكننا القول هنا والتشديد على دور سلطان الإرادة في التحكيم البحري حيث تلعب إرادة الأطراف أكبر دور وأعظم مسير منذ الإتفاق على التحكيم إن من خلال شرط التحكيم البحري و إن من خلال اتفاق التحكيم المستقل. لكن الإشكالية التي تطرح في ميدان التحكيم البحري هو لجوء أطراف العلاقة البحرية إلى العقود البحرية النموذجية التي صاغتها أيادٍ متخصصة ومحترفة في المراكزالتحكيمية البحرية في لندن، الولايات الأميركية المتحدة، وباريس، وعليه يوجد في أغلب هذه العقود النموذجية بنداً لجعل مكان التحكيم في هذه البلدان، مع ما يستتبع ذلك من سفر ونفقات ولجوء لهذه المراكز . فإن النقطة المحورية في مكان التحكيم تكمن في القانون الواجب التطبيق على النزاع والذي يمكن أن يكون هو مكان التحكيم في العديد من الحالات، إلى غير ذلك من أسباب. من هنا فإننا نركز على حرية الأطراف في الإستعانة بهذه العقود النموذجية وتعديلها وفق ظروف ومعطيات الأطراف وما يتناسب معهم.
ثانياً: على صعيد القانون الواجب التطبيق على النزاع
يشكل القانون الواجب التطبيق على النزاع نقطة جوهرية في التحكيم البحري، كيف لا والمتعاملون في المجال البحري يلجؤون للتحكيم هرباً من تطبيق القوانين الوطنية وهرباً من مشكلة تنازع القوانين حيث من المعلوم أن النزاع البحري هو نزاع دولي، وعليه تتولد إشكالية القانون الواجب التطبيق على النزاع البحري. يتصدى للنزاع العديد من القوانيين:
- قانون العقد الأصلي الذي يحتوي شرط تحكيم.
- قانون جنسية الأطراف (خاصة في مواضيع الأهلية)
- قانون مكان التحكيم المختار
وعليه لمعالجة هذه القضية فإنه ينبغي على الأطراف تحديد القانون الواجب التطبيق على النزاع تطبيقاً لمبدأ سلطان الإرادة وحرية المتعاقدين في اختيار القانون الذي يتوافق مع معطياتهم، وفي حالة عدم تحديد هذا القانون يكون من واجب المحكم المنفرد، أو هيئة التحكيم اختيار القانون الأنجع والأنسب مع وقائع النزاع الذي يمكن أن يكون أحد هذه القوانيين المذكورة أعلاه. وعليه ينبغي لأطراف العلاقة البحرية تجنب هذه المسألة وتحديد القانون بأنفسهم وتحديد القانون المختص بالإجراءات التحكيمية وصولاً لإصدار الحكم التحكيمي البحري الملائم لتجارية الأطراف.
ثالثاً: على صعيد نوع التحكيم المختار
كما يتناسب التحكيم التجاري البحري مع المحكم المفرد الذي يتلائم مع خصوصية القطاع البحري بتقنياته، جزئياته، وأبعاده المهنية وأعرافه البحرية خاصة لجهة السرعة والإنخفاض في الأكلاف. فالبعد الأهم في تناسب المحكم المفرد هو السرية التي يمكن أن يوفرها محكم واحد قياساً على هيئة تحكيم متعددة والتي عادة ما تكون من جنسيات دول مختلفة مما يطرح امكانية أكبر لتسريب الإجراءات والبيانات والمستندات ناهيك عن الحكم التحكيمي البحري، الأمر الذي يتناقض مع الهدف المرجو من اختيار وسيلة التحكيم.
هذا السبب الجوهري هو الذي يجعل من التحكيم الحر الملاذ الأكثر أماناً وانتشاراً في التحكيمات البحرية، فالتحكيم البحري الحر لا يعني عدم وجود مؤسسة تحكيمية تشرف على هذا التحكيم لكنها لا تضطلع بدور المنظم الذي يتدخل بالعملية التحكيمة، فالمعيار المميز للتحكيم المؤسسي والتحكيم الحر هو وجود أو عدم وجود مؤسسة تحكيمية و لها كيان إداري ينظم ويدير العملية التحكيمية منذ تشكيل هيئة التحكيم وصولاً لإصدار الحكم التحكيمي، وعليه فإن انتفاء أحد هذين الأمرين يجعل من التحكيم البحري حراً. وهو ترياق التحكيمات البحرية التي بغالبيتها تحكيمات بحرية تجارية تتم من خلال محكم مفرد و من خلال تحكيم بحري حر. فالسرية والسرعة والكلفة الأقل هي أسباب تلعب دورها في تغليب التحكيم الحر عن التحكيم المؤسسي في مجال التحكيم التجاري البحري خاصة لجهة السرية التي تتركز في التحكيم الحر أكثر من التحكيم المؤسسي سيما وجود سكرتاريا وجهاز إداري يضطلع على سير العملية التحكيمية في التحكيم المؤسسي، الأمر الذي يوفر قدراً أكبر من المحافظة على العلاقات والروابط التجارية التي تتجنب العلانية وتسير بسرعة وثقة كبيرة تحتاج إلى ائتمان وحد أدنى من الإهتزازات والإشاعات التجارية التي تؤثر سلباً على الإئتمان والثقة بهذا التاجر أو تلك الشركة.
نخلص إلى القول بضرورة اللجوء إلى التحكيم في القطاع البحري واستعمال العقود البحرية النموذجية مع ضرورة التنبه لبنود تلك العقود، والتنبه أيضا أن لحرية أطراف العلاقة البحرية سلطان يستطيع كل منهم تعديل أي بند أو فقرة غير واضحة أو تحيل إلى مكان أو زمان أو قانون أو مركز أو بلد…إلخ. وذلك بالتوافق مع الطرف الآخر. كما نطرح مسألة اللجوء إلى وسائل بديلة نافعة قبل الوصول إلى التحكيم كالمفاوضات والتوفيق وغيرها من وسائل يمكنها حسم النزاع قبل الخوض في إجراءات التحكيم. فيوضع بند في العقد بالبدء بالوسائل البديلة ثم بعد فشل تلك الوسائل الولوج إلى التحكيم البحري لفض النزاع، بهدف الحفاظ على العلاقات البحرية التجارية التي تشكل مصدر غال ووثيق ومهم في أي ميدان تجاري.