مجلة كيو بزنس Q Business Magazine:
كان النمو الاقتصادي للولايات المتحدة قوياً خلال الفصول الأخيرة، وهو ما دعم الطلب العالمي خلال فترة اتسمت بالضعف المصحوب بتراجع التصنيع وزيادة عدم اليقين. وفي الواقع، ليس من الصعب أن نحصل على مؤشرات اقتصادية ومالية تؤكد الاتجاه الصعودي للاقتصاد في الولايات المتحدة. ففعلاً، نرى أن أسعار الأسهم تقترب من أعلى مستوياتها على الإطلاق، ولا يزال الناتج المحلي الإجمالي ينمو فوق إمكاناته، كما أن مختلف مؤشرات قياس معدلات البطالة تحوم حول أدنى مستوياتها في عدة عقود. ومع ذلك، ينبغي علينا أن نتبع نهجا أكثر دقة عند النظر في البيانات، حيث أن بعض المؤشرات تتأخر أو تتزامن مع الدورة الاقتصادية بينما البعض الآخر من هذه المؤشرات يقود الدورة.
في حالة الولايات المتحدة، تأتي بيانات الاقتصاد الكلي الإيجابية في الغالب من مؤشرات متأخرة أو متزامنة، وتقدم صورة للماضي القريب أو للحاضر الآني بدلاً من الدلالة على المستقبل. وتقدم المؤشرات الرائدة صورة أقل تفاؤلاً إلى حد ما، بل إنها ترسل إشارات تحذيرية حول مستقبل الاقتصاد الأمريكي. يتطرق تحليلنا الحالي إلى مجموعة مختارة من المؤشرات الرائدة وما تقوله هذه المؤشرات عن الاقتصاد الأمريكي.
أولاً، فيما يتعلق بفضاء أدوات الدخل الثابت، فقد انعكست مقاييس مختلفة من منحنى عائد سندات الحكومة الأمريكية، وهو الفرق بين عائدات الأدوات المماثلة ذات آجال الاستحقاق المختلفة. على سبيل المثال، الهامش المعياري بين سندات الخزانة لمدة 10 سنوات و3 أشهر. وهذا مؤشر رائد على الركود حيث أن انخفاض العائدات على المدى الطويل يعني انخفاض توقعات النمو، وارتفاع العائدات قصيرة الأجل ينطوي على تشديد للسياسة النقدية. لقد ظهرت هذه الإشارة قبل فترات الركود السبع الأخيرة في الولايات المتحدة منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي، وعادة ما يجيء هذا التحذير قبل عام أو عامين من الركود.
ثانياً، فيما يخص مجال الأسهم، على الرغم من أن مؤشر S&P 500 وغيره من مؤشرات الأسهم تحوم حول أعلى مستوياتها على الإطلاق، فإن النظر بشكل أعمق إلى المؤشرات يشير إلى صورة مختلفة تماماً. في حين أن السوق العامة مدعومة بأسهم دفاعية (الأدوية، والمرافق الأساسية) وحفنة من الأسهم ذات الأداء المتفوق، فإن أسهم القطاعات الدورية الأمامية تشير إلى بيئة صعبة إلى حد ما. تشمل الأسهم الدورية الرئيسية أسهم قطاعات النقل بالشاحنات وتجارة التجزئة وأسهم المعادن والتعدين في مؤشر S&P، وهي عادة ما تكون أكثر حساسية للتغيرات الاقتصادية الدورية. وعلى هذا النحو، غالبًا ما تكون الأسهم الدورية الرئيسية بمثابة إنذار مبكر بنقاط التحول، خاصةً عندما تنحرف عن المؤشرات الكبيرة. في حين أن مؤشر S&P 500 لا يزال مرتفعًا قليلاً عن أعلى مستوياته في أكتوبر 2018، فإن الأسهم الدورية الرئيسية انخفضت بنحو 25-10% خلال نفس الفترة. بالإضافة إلى ذلك، بلغت أرباح الشركات الأمريكية ذروتها في الربع الثالث من عام 2018، مما يعزز الفرضية، حيث أن بلوغ هذه الذروات عادة ما يسبق التحول الدوري نحو انخفاض الطلب.
ثالثاً، بدأت معالم الضعف تظهر أيضاً على النشاط الحقيقي، فقد بلغ مؤشر مدراء المشتريات الصناعي للمعهد إدارة التوريدات (ISM) أعلى مستوى له في أغسطس 2018 عند 60.8 نقطة، قبل تراجعه إلى 51.2 نقطة في يوليو 2019. كما أن الطلبات المستقبلية الجديدة في المؤشر المذكور- وهي ذات طابع استشرافي- في وضع أسوأ، فهي أعلى بقليل من حاجز الانكماش البالغ 50 نقطة. وتباطأ الانفاق الرأسمالي في الولايات المتحدة بحدة، وتشير أيضاً المؤشرات عالية التواتر، مثل طلبات السلع المعمرة وواردات السلع الرأسمالية، إلى وجود المزيد من الضعف. وحتى سوق العمل التي كانت تتسم بالقوة بدأت تتدهور. وفي حين أن معدلات البطالة لا تزال قريبة من أدنى مستوياتها لعقود، إلا أن أنشطة التوظيف (الوظائف الجديدة) تتراجع، كما يشهد العدد التراكمي لساعات العمل الفعلية في القطاع الخاص انحساراً. وذلك يشير عادةً إلى دورة جديدة من عمليات تسريح العمالة.
وتتوافق العلامات التحذيرية الصادرة عن المؤشرات الرائدة مع الرؤية التي تفيد بأن الاقتصاد الأمريكي سيشهد تباطؤاً بأكثر مما تشير إليه التوقعات الإجماعية. ويعود ذلك إلى زوال “التأثير الإيجابي الأولي” الناتج عن التحفيز المالي، والتبعات المتأخرة لدورة التشديد النقدي السابقة، والآثار غير المباشرة لتباطؤ النمو العالمي وعدم اليقين المصاحب للحرب التجارية. لهذه الأسباب، نعتقد أنه سيتعين على بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الاستجابة وفقًا لذلك من خلال تخفيف السياسة النقدية أكثر. من وجهة نظرنا، سيقوم بنك الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في سبتمبر، عندما تجتمع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة. ونتوقع بعد ذلك خفضًا إضافيًا بمقدار 50 نقطة أساس في أسعار الفائدة قبل نهاية العام الحالي. في الواقع، نعتقد أن هذه بداية لتخفيف كبير وليس مجرد “تعديل لمنتصف الدورة”، ونتوقع المزيد من التخفيضات حتى عام 2020 .