مجلة كيو بزنس QBusiness magazine:
لا يوجد مستقبل لا يحمل قدراً من عدم اليقين. في الواقع، تنطوي جميع الأنشطة المهمة التي يتم تنفيذها بشكل مستمر أو في إطار زمني معين على بعض المخاطر، أي مخاطر محسوبة. وفي المجتمع الحديث، تميل معظم الأحداث إلى الوقوع ضمن حدود توقعاتنا العادية. غير أن بعض الوقائع ذات طابع مغاير تماماً وتأتي في أقصى حد لمنحنى الاحتمالات، ويكون لها ذيول ذات تأثيرات هائلة على المجتمع. ومن المعتاد الآن تسمية مثل هذه الأحداث بـ “البجعات السوداء”. وسنلاحظ أن هذه الأحداث، التي أخذت اسمها من الطيور الأسطورية المعروفة في غرب أستراليا، ليست نادرة فحسب، بل من الصعب للغاية التنبؤ بها، كما يصعب أيضاً قياسها.
يعدّ انتشار وباء فيروس كوفيد-19 الشبيه بالالتهاب الرئوي أحد حوادث البجعة السوداء الكلاسيكية. فبعد انتشار واسع في مدينة ووهان في الصين في أواخر عام 2019 وأوائل عام 2020، انتشر الفيروس في جميع أنحاء آسيا قبل أن يتفشى في مناطق أخرى على مستوى العالم، بما في ذلك في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. وفي حين أن إمكانية حدوث جائحة عالمية كانت معروفة على نطاق واسع، بل وحتى تمت مناقشتها من قبل الخبراء بشكل علني، إلا أن إمكانية التنبؤ باحتمال حدوثها في وقت معين كانت منخفضة أو متعذرة. علاوة على ذلك، من المعروف أن الأثر الإجمالي للجائحة كبير ولكن من الصعب قياسه بشكل صحيح. وبالتالي، ليس واضحاً وجود رد جماعي فوري وفعال على المستوى العالمي. ومع تزايد عدد البلدان التي ستنتقل من مرحلة الاحتواء إلى استراتيجيات التخفيف عالميًا، نظراً لانتشار الفيروس في مجتمعات ومناطق محلية في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، كان لا بد من اتخاذ إجراءات أقوى في تلك البلدان.
في وقت كتابة هذا التقرير، أثبتت الاختبارات الجماعية والدرجات المختلفة من تدابير التباعد الاجتماعي مثل الحجر الصحي وحالات الإغلاق أنها “الحل الوحيد المتاح” كاستراتيجيات موثوق بها للتخفيف من وطأة الوباء. الهدف الرئيسي من إجراءات التخفيف هو إطالة الوقت الذي ينتشر خلاله الفيروس، وتسطيح منحنى العدوى قبل أن يحدث اختناق في المستشفيات بسبب أي زيادة مفاجئة في الحالات الحرجة. الغاية من ذلك هي إنقاذ الأرواح، وزيادة معدلات الشفاء وتجنب العواقب غير المقصودة المرتبطة بإنهاك النظام الصحي.
في حين يظل التباعد الاجتماعي إجراءً ضرورياً للتخفيف، فإن له تكاليف اقتصادية. يتعمق هذا التحليل في ثلاث نقاط رئيسية مرتبطة بالعلاقة القوية بين تدابير التخفيف والاقتصاد العالمي، والتي من المتوقع أن تهيمن على أجندة الاقتصاد الكلي العالمية خلال الأرباع القادمة.
أولاً، يؤدي التباعد الاجتماعي على نطاق عالمي إلى توقفات اقتصادية مفاجئة متتالية قوية تؤدي إلى توقف العرض والطلب على حد سواء. على هذا النحو، فإن حتى قطاع الخدمات، الذي عادة ما يكون أكثر مرونة من التصنيع وأقل تأثراَ بالعوامل الدورية، يتأثر بشكل خاص. وبهذا المعنى، تكون الاقتصادات الكبيرة القائمة على الخدمات مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرها من الاقتصادات المتقدمة معرضة للتأثر بشكل كبير. ومن المتوقع أن يتجه الاقتصاد العالمي هذا العام إلى أكبر حالة من التباطؤ الحاد والعميق منذ عملية تسريح الجنود بعد الحرب العالمية الثانية في أواخر الأربعينيات.
ثانياً، على المدى المتوسط، لا يمكن المساومة بين الحد من انتشار كوفيد-19 والاقتصاد. فليس هناك أدنى شك بأن فرص استعادة النشاط الاقتصادي “الطبيعي” ستكاد تنعدم في حال تعرض نسبة كبيرة من السكان للإصابة بالعدوى خلال فترة زمنية قصيرة وانهارت المرافق الصحية. علاوة على ذلك، فإن الدراسات الأولية تدعم فرضية أن تدابير التباعد الاجتماعي المبكرة والقوية التي تم فرضها إبان تفشي الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918 كان لها دور أساسي في الحد من الوفيات والتبعات الاقتصادية السلبية للوباء. وتتوافق التجارب الأخيرة للبلدان التي تبنت مبكراً تدابير مشابهة خلال المرحلة الأولى من انتشار كوفيد-19 (هونغ كونغ وتايوان وكوريا وسنغافورة) مع الاستنتاجات المذكورة أعلاه. ثالثاً، في البلدان التي تفشى فيها الوباء بشكل كبير، يتطلب الانتقال المنتظم إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الطبيعية موقفاً حذراً مع استخدام أدوات وأساليب جديدة لمنع ما يُعرف بـ “الموجة الثانية” أو ازدياد وتيرة انتشار المرض. وبعد أن تتباطأ وتيرة انتقال العدوى ويتم تدعيم البنية التحتية الصحية للتعامل بشكل آمن مع الوباء، يمكن إجراء “إعادة فتح” تدريجي للاقتصاد. ولكن ذلك يتطلب إمكانات فحص كافية للتعرف المبكر على الحالات الموجودة وعزلها. وللبيانات أهمية قصوى في تحديد مناطق انتشار المرض ومعدلات تعرض السكان
ومدى مقاومتهم للمرض. وسيكون لذلك- إلى جانب البنية التحتية اللازمة لاحتواء الحالات والإمدادات الطبية الكافية- دور مهم في تحقيق الانتقال السلس من التباعد الاجتماعي الأفقي (الذي يشمل كافة السكان) إلى التباعد الاجتماعي الرأسي (الذي يقتصر فقط على السكان الأكثر عرضة للمرض والمصابين به). ومن المفترض أن يسبق هذا التحول العودة بالكامل إلى الوضع الطبيعي. بشكل عام، سيكون لجائحة كوفيد-19 تأثير عميق ولكنه مؤقت إلى حد ما على الاقتصاد العالمي. ومن شأن الدعم المالي والنقدي الشامل في جميع الأسواق الرئيسية أن يوفر “الأمن الاقتصادي” خلال فترة الركود وأن يضع الشروط اللازمة لتحقيق انتعاش سليم. في الواقع، نحن نتوقع انتعاشًا اقتصاديًا في الربع الثالث والربع الرابع من عام 2020. ومع ذلك، يتطلب هذا اتخاذ إجراءات مبكرة وقوية لاحتواء كوفيد-19 والتخفيف منه عالمياً بطريقة منظمة.