سجلت السلع الأساسية تداولات منخفضة في أسبوع رَسمت ملامحه الرئيسية التطورات الحاصلة في واشنطن وموسكو. وجاءت قرارات مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، في آخر اجتماعات اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة، مفاجئةً من حيث التوقعات برفع أسعار الفائدة مع إقرار الزيادة المتوقعة بمقدار 75 نقطة أساس وإلغاء التوقعات بخفض أسعار الفائدة في عام 2023. وتأتي هذه التغييرات على الرغم من الانخفاض الملحوظ في توقعات الناتج المحلي الإجمالي للعامين الجاري والمقبل فضلاً عن ارتفاع لافت في توقعات معدل البطالة، ما يشير إلى مواصلة الاحتياطي الفدرالي سياسته القائمة على رفع أسعار الفائدة رغم احتمال تدهور الاقتصاد للتعامل مسبقاً مع تفاقم معدلات التضخم.
وأدت هذه التطورات إلى ارتفاع ملحوظ للدولار الأمريكي وعائدات سندات الخزينة الأمريكية، وساهم ذلك في ظل توجه البنوك المركزية الرئيسية لرفع أسعار الفائدة لديها، إلى تعزيز المخاوف من الركود وخفض أسعار السلع عالية التأثر بالنمو الاقتصادي، مثل القطن والنحاس. ورغم ذلك، حصلت سلع أساسية أخرى، مثل الذهب والقمح والديزل، على بعض الدعم بعد تصاعد حدة الغزو الروسي لأوكرانيا، ما عزّز موقف الذهب كملاذ آمن وفاقم مخاطر إمدادات السلع الأساسية الرئيسية، مثل القمح والنفط الخام ومنتجات الوقود.
وشهدت تداولات مؤشر بلومبرج للسلع الرئيسية انخفاضاً بواقع 2.5% خلال الأسبوع نتيجة تشديد السياسات النقدية التي أثرت سلباً على آفاق النمو، عدا عن ضعف الاقتصاد الصيني وأزمة الطاقة في أوروبا، والتي دفعت مؤشر مديري المشتريات إلى أدنى مستوياته منذ عام 2013. وسجلت قطاعات الغاز الطبيعي والقطن والنفط الخام والمعادن الصناعية أعلى معدلات الخسائر.
تعاني غالبية السلع الأساسية من البيئة الاقتصادية المضطربة نتيجة مجموعة من حالات عدم اليقين مع اقتراب نهاية العام. وتتصاعد التوقعات بحدوث الركود مع تراجع احتمالات تعرض القطاع لانتكاسة قوية قبل انتعاشه مجدداً في عام 2023. وساهمت آخر تدابير اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة في تقريب السوق من الوصول إلى أسعار الفائدة النهائية والمتوقعة في الربع الأخير من عام 2022؛ والتي ستنعكس في بلوغ الدولار وعائدات سندات الخزينة الأمريكية ذروتها ما يخفف من بعض الصعوبات التي واجهتها السوق مؤخراً.
وتستند توقعاتنا باستقرار الأسعار أو حتى ارتفاعها، بفضل الأداء القوي للسلع الأساسية في قطاعات الطاقة والمعادن والزراعة، إلى تبعات العقوبات وارتفاع تكاليف التنقيب والاستخراج وسوء الأحوال الجوية وانخفاض الإقبال على الاستثمار. ومن هذا المنطلق، نرى بأنّ مؤشر بلومبرج للسلع الأساسية، الذي يتتبع أسعار سلة من 24 سلعة أساسية، سيحافظ على غالبية المكاسب التي حققها منذ بداية العام حتى الآن بنسبة 15% لما تبقى من العام.
تراجع حاد في الأسعار العالمية للشحن بالحاويات
يظهر تدهور الآفاق الاقتصادية العالمية بوضوح في التراجع المستمر في تكاليف شحن الحاويات بمقاس 40 قدم في جميع أنحاء العالم، لا سيما على المسارات الرئيسية من الصين إلى أوروبا والسواحل الشرقية والغربية للولايات المتحدة. وتراجع مؤشر دروري العالمي المركّب للشحن بالحاويات بواقع 10% خلال الأسبوع الماضي إلى 4,472 دولار أمريكي للحاوية الواحدة بمساحة 40 قدم، ما يمثل أدنى مستوياته منذ ديسمبر 2020. ورغم تراجع المؤشر بنسبة 57% عن أعلى مستوياته في 21 سبتمبر، إلا أنه ما يزال أعلى بثلاثة أضعاف من معدلات ما قبل أزمة كوفيد-19، ما يشير إلى تسجيله مزيداً من التراجع مع انخفاض زخم الاقتصاد العالمي. وحافظ المسار عبر المحيط الأطلسي إلى نيويورك على استقراره، ما يُعزى بشكل جزئي إلى ضعف اليورو الذي يدعم الصادرات إلى الولايات المتحدة.
القمح يُسجّل أعلى مكاسبه منذ مارس بسبب الحرب في أوكرانيا والمخاوف من سوء الأحوال الجوية
وصلت العقود الآجلة للقمح في كل من شيكاغو وباريس، وهما اثنين من أفضل أسواق السلع الأساسية من حيث الأداء في الأسبوع الماضي، أعلى مستوياتها منذ شهرين مدعومة بمخاطر تصاعد النزاع في أوكرانيا، ما يُعرض ممر تصدير القمح الأوكراني برعاية الأمم المتحدة للخطر إلى جانب الجفاف الذي يُصيب الأراضي الزراعية في سهول الأرجنتين والولايات المتحدة. ويأتي ذلك رغم التوقعات المتفائلة من مجلس الحبوب الدولي، والذي رفع توقعات الإنتاج العالمي لموسم 2022/2023 بمقدار 8 ملايين طن، ما يُعزى بشكل رئيسي إلى الزيادات في محصول الحبوب في روسيا وكندا وأستراليا، فيما يُعد مراجعة صعودية تعزز المخزونات بحلول نهاية الفترة بحوالي 10 مليون طن.
ويمكن أن يؤدي تراجع صادرات القمح عالي الجودة الضعيفة أصلاً من أوكرانيا إلى رفع الأسعار خلال أشهر الشتاء، خاصة في ظل تصاعد المخاوف من تأثير ظاهرة لا نينيا على الإنتاج خلال موسم الزراعة المقبل في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. وصلت صادرات أوكرانيا إلى 883 ألف طن في أغسطس، أي أدنى بحوالي 2.7 مليون طن عن معدل العام الماضي، ويُعدّ هذا التراجع مرشحاً للتفاقم في سبتمبر، الذي يكون عادةً الشهر الأكثر نشاطاً للصادرات الأوكرانية، التي بلغت 4.6 مليون طن العام الماضي. ويمكن أن يساهم استمرار فتح الممر في دعم الصادرات خلال الفترة التي تمثل عادةً الموسم الوسطي.
استمرار الأداء القوي للدولار والعائدات يعيق ارتفاع الذهب
انعكس الارتفاع الكبير في عائدات الخزينة الأمريكية والدولار على الذهب بشكل سلبي، حيث انهارت سوق الذهب بسبب انخفاض معنويات السوق مع ارتفاع بواقع 32 نقطة أساس في عائدات الولايات المتحدة لأجل عشر سنوات لتُسجل أعلى مستوياتها منذ 12 عاماً عند 3.75%، إلى جانب زيادة بنسبة 2% في مؤشر بلومبرج للدولار الأمريكي ليبلغ أعلى مستوياته منذ عام 1997.
ويُرجح أن يبقى الذهب والمعادن شبه الاستثمارية، مثل الفضة والبلاتين، تحت الضغط حتى وصول السوق إلى أسعار الفائدة النهائية، كما يُتوقع أن يسبق ذلك ارتفاع العائدات لأجل عشر سنوات بنسبة 4% وسيطرة الدولار على جميع التداولات قصيرة الأجل. ويبقى أن ننتظر لنرى ما إذا كانت السوق ستصل لنقطة التحوّل هذه قبل نهاية العام. وتواصل اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة رفع أسعار الفائدة وتعزيز توقعات تراجع النمو وارتفاع معدلات البطالة، ما يعني بأنها ترى حدوث الركود الاقتصادي مخاطرة مجدية لضبط معدلات التضخم. ونحافظ على رؤيتنا طويلة الأمد بأن السوق، على غرار اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة، يمكن أن تكون مفرطة بتفاؤلها بشأن إمكانية تراجع التضخم لما دون 3%، حيث يتم التسعير حالياً في سوق المبادلة.
وأصبح مستوى المقاومة عند 1690 دولاراً للأونصة، بينما قد يدفع التراجع المُسجل يوم الجمعة ما دون 1654 دولار للأونصة الأسواق لاستهداف تصحيح بنسبة 50% على غرار ما حدث في الفترة بين عامي 2018 و2020 عند 1618 دولار للأونصة.
مخاوف النمو تدفع النحاس والنفط الخام نحو مزيد من التراجع
تراجعت جميع السلع الأساسية المعتمدة على النمو والطلب، مثل النحاس والألمنيوم والنفط الخام، مع التركيز على التطورات العالمية للاقتصاد الكلي خصوصاً وسط التجاهل الحالي لعوامل الطلب الداعمة، لا سيما في قطاع النفط الخام. وأظهر النحاس بعض مؤشرات الضعف، حيث ارتفعت مخزونات النحاس التي تتم مراقبتها من قبل بورصة لندن للمعادن بقوة لخمسة أيام متتالية، بينما تراجع شح العرض الذي شهدته أسواق العقود الفورية مؤخراً. وتراجعت العقود الآجلة للنحاس عالي الجودة المتداولة في نيويورك بنسبة 4% في يوم الجمعة إلى 3.33 دولار أمريكي للرطل، ما يمكن أن يدفع النحاس مُجدداً إلى مستوى الدعم الأساسي الصعب عند حوالي 3.14 دولار للرطل، وهو أدنى مستوى مُسجل في يوليو، مع تصحيح بنسبة 61.8% عن الارتفاع المُسجل بين عامي 2020 و2022.
كما تراجع النفط الخام بعد أن أمضى غالبية الأسبوع محصوراً في نطاق ضيق نسبياً في ضوء عدم اتضاح الطرف المنتصر في المواجهة بين باول وبوتين (التي تُمثل مواجهة بين جانبي الطلب والعرض) لغاية يوم الجمعة، حين تراجع كُلٌّ من خام برنت وخام غرب تكساس الوسيط، بالتوازي مع تراجع الرغبة في المخاطرة مدفوعاً بإجراءات اللجنة الفدرالية للسوق المفتوحة والارتفاع الطفيف في مخاوف النمو في ضوء استمرار مكاسب الدولار والعائدات. وينتظرنا ربع سنوي حافل بالتحديات والاضطرابات وحالات عدم اليقين المتناقضة التي ستلعب دوراً في تحديد اتجاهات السوق. ورغم إدراك الأسواق للمخاطر التي تعيق النمو، غير أنها تصرف حالياً النظر عن تأثيرات تراجع الإمدادات نتيجة حظر الاتحاد الأوروبي واردات النفط والوقود الروسية، والانعكاس الجزئي لبيع الولايات المتحدة 180 مليون برميل من مخزونها الاحتياطي الاستراتيجي.
المصدر: مجموعة ساكسو