مجلة كيو بزنس Q Business Magazine:
أي مصرف سيكون “ليمان براذرز” الاقتصاد اللبناني؟
تهاوي تصنيف لبنان الإئتماني لثلاثي (فيتش- ستاندرد أند بورز- موديز) الى درجة “التعثر الكامل” تُلحق بالمصارف اللبنانية خسائر كبيرة
علاقة عضوية غير مجدية بين البنوك المحلية والمصرف المركزي أثرّت على الدولة والمودعون سيدفعون الثمن
أشهر مصرف “ليمان براذرز” الأميركي في منتصف شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2008 إفلاسه بعد 150 عاماً من خدمة السوق الأميركي، ما أدخل العالم في آتون أزمة اقتصادية لم يسبق لها مثيل منذ عام 1929. وقد خُمنّت أصول المصرف وقت ذاك بـ 691 مليار دولار أميركي في حين لامست قواه الوظيفية حاجز الـ 25 ألف موظف. وقد وجهّت انتقادات صارمة للمصرف للمجازفات الكبيرة التي قام بها لزيادة أرباحه على المدى القصير.
(بقلم الاستاذ فراس سليم، كاتب صحفي والرئيس التنفيذي لمؤسسة Virtue للاستشارات)
يبدو هذا المشهد مألوفاً جداً للوضع المصرفي الحالي في لبنان، حيث أننا لم تستقِ أية دروس من تلك التجربة الأميركية المريرة التي ولدّت أزمة مالية عالمية لا نزال بعد أكثر من 12 عاماً متأثرين بتداعياتها.
إن انهيار بنك “ليمان براذرز” قد خلق موجة جماعية هلعت لسحب ودائعها، ما تسبب بإنهيار مالي طال ليس فقط الولايات المتحدة بل أيضاً 23 دولة أخرى حول العالم وفق صندوق النقد الدولي. وتشير إحدى الدراسات إلى أن خسارة المواطن الأمريكي العادي من جراء الأزمة تعادل 70 ألف دولار من دخله مدى الحياة. وبعد ذلك انكبت العديد من الدول حول العالم الى محاولات إنقاد بنوكها الفاشلة وتنشيط اقتصادها ما رفع دينها العام الى أكثر من 30 نقطة مئوية من إجمالي الناتج المحلي لها.
أردت البدء بهذه المقاربة حول مصرف “ليمان براذرز” الشهير لأقول بأن إفلاس أي مصرف في لبنان في الوقت الحالي سوف يهدد مالية الدولة اللبنانية بأسرها، حيث شئنا أو أبينا ثمة علاقة عضوية بين مصارف لبنان الـ 65 والدولة اللبنانية. قد يقول البعض بأن عدد مصارف في لبنان مقارنة بعدد السكان عال جداً إذا ما حسبنا فروعها المنتشرة في كافة الأراضي اللبنانية، غير أن الوقت ليس ملائماً اليوم اقتصادياً لغربلة هذه المصارف، لأن تأثير ذلك على الاقتصاد الكلي سيكون كبيراً جداً حاله حال الضرر الذي يلحق يومياً بالاقتصاد الجزئي وأعني به المودعين والمؤسسات الصغيرة.
ويتسم النظام المصرفي اللبناني بأنه يتصدر قائمة الدول في مجال نسب الودائع إلى حجم الاقتصاد في العالم حيث تصل هذه النسبة الى ما يقارب الـ 350%. وقد لحق بالمصارف اللبنانية خسائر كبيرة جراء إعلان الحكومة إعادة هيكلة الدين في الشهر الحالي. وتُشير التوقعات أن هذه المصارف ستحتاج الى عشرات مليارات الدولارات لتأمين مؤوناتها وتعزيز محافظها الائتمانية، فضلاً عن مواجهتها مشكلة تعثر القروض، ما يحتم عليها زيادة رأسمالها بنسب أعلى بكثير ما طالبها به مصرف لبنان. وأي مُلّم في الاقتصاد العالمي يدرك مدى خطورة هذا الوضع حيث أن دول أخرى في العالم انفجرت فيها الأزمات مع أن نسبة دينها لحجم اقتصادها أقل بكثير من لبنان.
وإن تخفيض التصنيف الائتماني للدولة سيجعل المصارف المراسلة، التي لا زالت تتعامل مع المصارف المحلية وهي قليلة، تُنهي تعاملها معها أو ترفع اشتراطاتها من خلال فرض ضمانات مفتوحة لاستمرارية التعامل. وما سيعزز الخطر المحدق بأي إفلاس مصرفي في لبنان هو الحقيقة المرة بأن المصرف المركزي لن يكون قادراً على مد البنك الفاشل بالسيولة، عن طريق الاحتياطات التي يملكها لديه، ما يعني إفلاس هذا المصرف وبدء سقوط المصارف واحداً تلو الآخر مثل تأثير الدومينو . هذا ما نبّه له الاقتصاديون والمصرفيون منذ العام 2011 بأن هذه العلاقة العضوية بين المصارف الخاصة ومالية الدولة سوف تؤذي كلا الطرفين وبالطبع المودعون سيدفعون الثمن.
وما يُعقّد الوضع، هو أن فشل المصارف اللبنانية جاء نتيجة وضع اليد على مليارات الدولارات العائدة للناس والتفريط بها لسد العجز التشغيلي للدولة اللبنانية وليس للانفاقات الاستثمارية كما يحصل في معظم دول العالم. كما أن تخفيض الجدارة الائتمانية للمصارف يعني ارتفاع معدلات فائدة، الأمر الذي يحدث نقيضه في الوقت الراهن حيث أن معدلات الفائدة هي في أدنى مستوياتها.
إن البنوك في لبنان لا تعمل وفق النمط السائد عالمياً في عالم الصيرفة، حيث أنها اتخذت منحىً آخر وانعطفت تجاه تعظيم الأعمال في جزئية يُفترض أن لا تسيطر على جُلّ أعمالها، ألا وهو إقراض الدولة. وشكّلت الضغوط الاقتصادية حافزاً للدولة للمزيد من الاقتراض، فاندفعت الحكومات المتعاقبة على الاقتراض محلياً من البنوك اللبنانية ليس فقط للدفاع عن الليرة، وتمويل النفقات الحكومية والمشاريع العامة، بل لتغطية نفقات تشغيلية لقطاع عام يفوق بكثير الحاجة الفعلية للدولة.
واندفعت البنوك المحلية لإقراض الحكومة بنسب فائدة مرتفعة، الأمر الذي أثقل لاحقا كاهل المالية العامة، كما رفعت الفائدة على الأفراد بالتوازي، ومع تراجع الاستثمارات الأجنبية، وتراجع الثقة بالاقتصاد المحلي، أصبح الوضع الاقتصادي يدور في حلقة مفرغة تقريباً، تنتقل به من وضع سيء إلى وضع أسوأ.
ولا شك بأن تلك البنوك قد رأت في السندات السيادية الحكومية ملاذاً أقل خطراً من إقراض القطاع الخاص، فالحكومة ضامن في كل الأحوال، وموارد الدولة وإن قلت فضماناتها موثوقة، كما أن قامت بالتوازي بتسويق هذه السندات لعملائها تحت نفس الشعار، هذا الأمر الذي تلاشى اليوم في إعلان الحكومة اللبنانية عدم سداد سندات اليوروبوند، ما سيهوي تصنيفه الإئتماني لثلاثي (فيتش- ستاندرد أند بورز- موديز) الى درجة “التعثر الكامل”.
ومن المتوقع أن يزداد الوضع المالي سوءاً نتيجة هذا الفزع الجماعي الحاصل، خصوصاً أن محور الشائعات يدور حول إفلاس البنوك وبالتالي ضياع الودائع، وانهيار الليرة، التي بالمناسبة استطاعت التكيف إلى حدٍ كبيرفي العقود الثلاثة الماضية مع الصراعات والمشاكل شبه المستمرة وسلسلة الفراغات الدستورية والنزفٍ المستمرّ في الدولارات المُتاحة محلّياً ناهيك عن العجز المتمادي في ميزان المدفوعات وتغطية نفقات تشغيل قطاع الكهرباء.