يحلّ عيد الفطر علينا هذه السنة في لبنان مع بدء العد العكسي لعملية رفع الدعم عن السلع الأساسية المستوردة (كالمواد الغذائية والمحروقات والأدوية) الذي توفره الحكومة عبر مصرف لبنان، بحجة استنزاف ما لدى الأخير من احتياطي بالعملات الصعبة.حيث يترقب اللبنانيون قفز الأسعار لمستويات لا سقف لها بعد رفع الدعم، حيث تجاوز سعر صرف الدولار الواحد بالسوق السوداء الذي يتحكم بقيمة العملة الوطنية 12500 ليرة، رغم أن سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة.هذه التحولات الطارئة على نمط عيش اللبنانيين دفعت كثيرين للبحث عن سبل بديلة للتكيف مع أزمتهم التاريخية، ولعل لجوء ما صار يُعرف بـ “فقراء لبنان الجدد” إلى أسواق البالة، هو أحد الأدلة الدامغة على ذلك، وقد لوحظ استعادة أسواق البالة لزخمها ونشاطها مع هذه الأزمة، رغم شكاوى العاملين فيها. ورغم كون “البالة” محط أنظار وقبلة الفقراء إلا أنها لم تعد كذلك، حيث يشتري تجار “البالة” بضائعهم بالكيلوغرام الذي يتراوح سعره بين نصف دولار و20 دولاراً، حسب نوعية البضائع، إلى الأغلى ثمناً التي تتراواح بين 50 إلى 100 دولار للقطعة، أي ما يعادل راتب شهرين لمحدودي الدخل، وثروة بالنسبة للعاطلين عن العمل. لقد عصف الانهيار بيوميات اللبنانيين رأساً على عقب، وهم يتكبدون خسائر باهظة في قيمة مدخراتهم ورواتبهم، بعد أن صار الحد الأدنى للأجور (650 ألف ليرة) يوازي نحو 45 دولاراً فقط (فيما كان قبل الأزمة يوازي 450 دولاراً).وهنا نعود للسؤال الأبرز الذي يطرحه غالبية اللبنانيين، ما الأسباب التي أدت إلى تدهور الليرة في هذا الوقت القياسي أمام الدولار؟لو تجاوزنا “قانون قيصر” ومآلاته حيث حرم لبنان من القروض والمساعدات من سيدر ومن صندوق النقد الدولي، إلا أنه وبحسب الخبراء والتحاليل الاقتصادية يوجد العديد من الأسباب تتلخص في:1. هيكلية ووهن الاقتصاد مع انكماش في النمو تعدى 25 % في عام 2020، ثم توقف التدفقات المالية من الخارج، والوضعية السلبية للعملات الأجنبية لمصرف لبنان، التي تجعل المصرف المركزي غير قادر على التدخل في سوق القطع أو لدعم المصارف.2. غياب برنامج شامل للإصلاح المالي وإعادة هيكلة الدين والمصارف، خاصة أن طبع العملة هو المصدر الأساسي لتمويل حاجات القطاع العام، في ظل تدهور الإيرادات العامة من رسوم وضرائب.3. عدم القدرة على إدارة سياسة نقدية ومالية، وتمدد الأسواق المالية الموازية غير المنظمة، واستشراء الفساد، وانفلات التهريب عبر المعابر غير الشرعية؛ أدى إلى تدهور قياسي لقيمة الليرة أمام الدولار، في ظل انعدام التوازن الاقتصادي.4. تراكم سنوات من العجز المستمر بميزان المدفوعات وعدم وجود تحويلات كافية لتغطية الاستيراد من الخارج، إضافةً إلى إجراءات مصرف لبنان المركزي الخاطئة، فالاحتياطي من العملات الصعبة بلغ قبل حراك أكتوبر/تشرين الأول 2019 نحو 31 مليار دولار، ثم هبط في غضون أشهر لـ16 مليار دولار، وهذا الهبوط لا يعود لتمويل المركزي نفقات دعم الاستيراد، بل بسبب عملية تهريب ضخمة للأموال وقعت في تلك الفترة.وعليه فإن مستقبل الليرة إلى مزيد من الإنهيار بتأكيد غالبية المراقبين وإنه لا سقف لتدهور الليرة، في ظل غياب تطبيق فاعل لخطة إنقاذ اقتصادية واجتماعية شاملة من قبل حكومة لديها الكفاءة والخبرة اللازمة في التعامل مع مطالبات المواطن اللبناني والمجتمع الدولي سواسية، خاصةً وأن لبنان يستورد نحو 80 % من استهلاكه، الأمر الذي سيرفع معدلات الفقر والعوز ويعزز عدم الاستقرار الأمني، مع انهيار للقطاعات الحيوية الاقتصادية والاجتماعية، ثم ارتفاع التضخم ومعدلات البطالة.. إلا أن الطامة الكبرى بحسب أحد الخبراء البنكيين لم تأتي بعد، فلبنان لم يبلغ عمق الأزمة، وإنما يعيش بوادرها الأولى فقط رغم كل ما يحصل، وأن القادم أكثر سواداً وسوءاً مما يعتقده الجميع.