مجلة كيو بزنس Q Business Magazine:
كيف سرق الأغنياء “لعبة الفقراء”؟
(بقلم محمود محمد دياب، المدير العام ورئيس التحرير)
في كتابه الشهير “كرة القدم بين الشمس والظل” يقول الكاتب الأورغواياني “إدواردو قاليانو”: “لعبة الفقراء ابتدعوها دحضاً للقهر وتفوّقاً على الأحزان”، إذ كانت كرة القدم سليلة أحياء فقيرة بمدينتي ليفربول ومانشستر حيث يسكن عمّال المناجم والمصانع، ثمّ انتشرت بمرور السنين إلى كل مناطق الفقر في العالم، كونها كانت ملاذاً للتفوق على السادة، ورمزاً لحضور لاعبيها في المجتمع، بل صوتاً للمهمشين والمنسيين في هذا العالم.
لوقت قريب كانت كرة القدم لعبة الفقراء، فهم من ابتكرها، وهم من نجح في عالمها المثير قبل أن يسرقها منهم الأغنياء خلال السنوات الأخيرة ويحولونها إلى مصدر لمزيد من الثراء، فمنذ العشريات الأولى للقرن الماضي كانت الساحرة المستديرة اللعبة التي يتناسى بها الفقراء همومهم ويضمدون بها جراحهم، يلعبون في الشارع والساحات العامة، وهي لا تكلف شيئاً لأن الكرة قديماً كانت عبارة عن كومة قماش، ولاحقاً كانت تُباع بثمن زهيد.
تحوّل المصطلح الذي كان رائجاً في بداية القرن التاسع عشر من “لعبة الفقراء” إلى “لعبة الشعب” وبدأ البساط يُسحب مرّة بعد مرّة من تحت فقراء العالم، إذ تحوّلت لعبتهم التي تُعبّر عن أحزانهم والتي من خلالها يفجّرون إبداعاتهم ويُبلغون رسائلهم إلى السادة المهيمنين، لتُصبح مجالاً لرأس المال المتغطرس، رغم أن الفقراء هم من كتبوا تاريخ كرة القدم وهم أساطيرها ونجومها على مرّ التاريخ، فـ “بيليه” كان مسّاح أحذية في شوارع البرازيل و”مارادونا” و”ميسي” قدما من أحياء فقيرة في الأرجنتين، و”كريستيانو رونالدو” سليل عائلة فقيرة تسكن جزيرة ماديرا في البرتغال، “وجورج ويّاه” بفضل كرة القدم تحوّل من طفل مشرد في ليبيريا إلى نجم عالمي توج بالكرة الذهبية ثم بات رئيساً لبلاده.
لقد تم سرقت اللعبة الحلم من الفقراء، بدءاً من حقوق النقل، إلى ارتفاع قيمة التذاكر، مروراً بصعوبة حجز مقعد لهم على المدرجات بسبب الاحتكار . فالجماهير لم يعد بوسعها اليوم متابعة مباريات كرة القدم مجاناً والتفاعل معها والاستمتاع بمفاجآتها للترفيه ونسيان مصائب ومصاعب حياتهم. بل سُرقت منهم وخُطفت من أقدامهم وباتت دجاجة تبيض ذهباً للأغنياء..
ومنذ شروع الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) في بيع الحقوق إلى شبكات معينة بعقود طويلة الأمد، تحوّل المشاهد إلى دمية في يد أصحاب القرار، يستغلون حاجته في المشاهدة ويرفعون من أسعار الباقات المخصّصة للبطولات الكروية التي يحتكرون حقوق بثها في مناطق جغرافية معينة.
ليست حقوق البث وحدها من حوّل كرة القدم إلى عالمها الثري، فالأندية أيضاً حوّلت كيانها إلى شركات تسعى للربح فقط، فأصبح كل أمر يتعلق بها تجارياً له أنظمته وتشريعاته القانونية، من عقود اللاعبين إلى حقوق النقل التلفزيوني إلى العلامات التجارية الراعية وكل الأمور الأخرى. هذا الوضع حوّل أسلوب الإدارة في الأندية إلى الأسلوب الاستثماري، من خلال إدخال الاستثمار في هيكلية الإدارة لتحقيق العوائد الكبيرة التي تُمكّن النادي من الاستمرار في النمو وتحقيق الأموال والبطولات.
لقد شن المال هجوماً كاسحاً على الملاعب العالمية، وأصبح العامل الرئيس في صناعة النجوم، بل والمدافع الأساسي في كل ملعب كرة قدم، فقبل سنوات قليلة، وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين شهدت كرة القدم بداية حقبة الاستثمارات، وقد قال أحد المتخصصين: “قديماً في الملاعب كان هناك 11 لاعباً يتنافسون في مبارة لكرة القدم، أما اليوم ففي كل ملعب يوجد 11 رجل أعمال يلعبون الكرة”.
بدأت الأندية تتحوّل إلى شركات مساهمة ربحية من عملية بيع اللاعبين وشرائهم، وتسويق منتجات النادي عن طريق رموز اللعبة المتواجدين في كل فريق عالمي؛ كـ “ميسي” و”رونالدو”، و”نيمار” وغيرهم، ليُسيطر عالم المال على الكرة بشكل كامل، وكان أول بدأ عالم الرأسمالية في أجواء الساحرة المستديرة هي الأندية الإنكليزية، حيث يعتبر الدوري الإنجليزي أعلى البطولات أجراً، من حيث بيع حقوق النقل التلفزيوني، لأن العائدات توزّع بالتساوي على أندية كرة القدم في الـ”بريميير ليغ”، سواء أكان الفريق في أول الترتيب أم آخره، والكل يناله نصيب وافر من حقوق نقل المباريات تلفزيونياً..
لذلك لا يُمكن أن نتفاجأ حين نسمع أن الإحصائيات المتعلقة بمونديال روسيا 2018 أقرّت بأن أكثر من ثلثي فقراء العالم لم يشاهدوا المباريات بواسطة نقل مباشر، بل تعرّفوا على النتائج فيما بعد بوسائط أخرى غير تلفزيونية، وهو مؤشر يشي بأن تغيرات جذريّة حصلت داخل منظومة كرة القدم العالمية، من خلال مزيد هيمنة رأس المال.