مجلة كيو بزنس Q Business Magazine:
لا يمكن وصف المسألة في لبنان بأنها موضوع ضرائب جديدة كما وصفها البعض، وإنّما مسألة فساد مُتجذّرة مع إقطاع سياسي، ونُخبة حاكمة مُنعزلة عن مُحيطها، ثم فئة من الفُقراء والمحرومين الذين عانوا الكثير من الويلات سواء خلال الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد في القرن الماضي، أم في عصر التكنولوجيا والتطور مع بداية الألفية الجديدة حتى يومنا هذا، ما دفع الطبقة الأخيرة خلال الأسبوع المنصرم إلى الإنفجار الكبير وخروجها إلى الطرقات ومُطالبتها بالحد الأدنى من لُقمة الخُبز المجبولة بالكرامة، وإن أتت على شكل المطالبة بإسقاط الحكومة.
تعود الأزمة الكبرى التي يواجهها النظام اللبناني إلى أسباب تاريخية أنتجت تراكماً للتناقضات السياسية والاقتصادية، فاقتصاد لبنان، منذ تأسيسه، هو اقتصاد ريعيّ غير منتج، أما نظامه السياسي فقائم على المحاصصة الطائفية التي تعتمد فيها العائلات السياسية /الحزبية على دعم أنصارها، في مقابل السكوت على استحكامها بمصادر السياسة والنفوذ والثروة.
ومع ارتفاع موجة الغضب والمظاهرات، يرى محللّون ممن يتابعون عن كثب ارتفاع وتيرة الانتفاضة الشعبية ضد الحكومة والمجلس النيابي ورئيس الجمهورية، أن أزمة الثقة بين من يشارك في هذه الانتفاضة وبين أركان السلطة على مستوياتها كافة بلغت ذروتها، مشيرين إلى أن الانتفاضة الحالية تعتبر الأكبر والأوسع مشاركة منذ مارس/ أذار 2005 التي جاءت رداً على اغتيال رئيس الحكومة الأسبق “رفيق الحريري”. ويتابع هؤلاء المراقبون الاتصالات التي يقوم بها رئيس الحكومة “سعد الحريري” والتي أسفرت عن موافقة المكونات الرئيسية في الحكومة على الورقة الاقتصادية “الإنقاذية” التي أعدها والتي سيعلن عنها قريباً علّها توقف غضب الشارع.
ويؤكد المراقبون أن الهوّة بين مئات الألوف الذين يشاركون في الانتفاضة على طول البلاد وبين أركان السلطة أخذت تتسع بشكل غير مسبوق، وأن ردمها يحتاج إلى وقت طويل، خصوصاً بعد أن انضم إليها اللبنانيون في دول الاغتراب التي كان جال عليها رئيس “التيار الوطني الحر” وزير الخارجية “جبران باسيل” وجاءت نتائج جولاته على عكس ما كان يتوقعه.
وبالعودة إلى سرعة الإنفجار الشعبي الغير
متوقع بسبب الأوضاع الإقتصادية الصعبة، فمرده إلى هشاشة الوضع السياسي ـ الاقتصادي
الهجين الذي انكشف بشكل كبير مع الأزمة السورية عام 2011، وظهور علامات الاهتراء
والهشاشة في الوضع الداخلي اللبناني، فتراكمت العوامل الاقتصادية: الانكماش
الاقتصادي وارتفاع الدين العام (85 مليار دولار) الذي يستنزف 44% من الإيرادات
العامة ، مع العوامل السياسية: الانقسام بين قوى 8 و14 آذار، والاغتيالات السياسية،
ولجوء قرابة مليون ونصف المليون سوري إلى لبنان، مع العقوبات الاقتصادية الأمريكية
على “حزب الله” وهو من أبرز المكونات الأساسية في لبنان، وعلى عدد من المصارف
والشخصيات المالية، مما انعكس على القطاع المصرفي اللبناني وهو عصب الحياة في هذا
البلد.
أحد
أبرز نقاط الضعف في الوضع اللبناني يأتي الأثر الهائل للفساد الاقتصادي، والذي يجعل
أي محاولات دولية لدعم الاقتصاد اللبناني، أو أي مشروعات إصلاحية مجالاً لأشكال
الفساد والسرقة ونهب الأموال العامة (كما يقول اللبنانيون والنواب أنفسهم)..
لقد قامت وكالة “ستاندرد آند بورز” بتخفيض تصنيف لبنان، كما فعلت
وكالتا “فيتش” و”موديز”، وهو ما أدّى إلى انعدام الثقة بسندات
الخزينة اللبنانية وبقدرة الدولة على سداد مستحقاتها المالية، ما قد يؤدي، في
النهاية إلى إمكان حدوث انهيار اقتصادي جزئي، إذا تدخّلت المنظومة الدولية للحفاظ
على الاقتصاد اللبناني، أو إلى انهيار كلّي، على طريقة اليونان عام 2007، وهو
سيناريو يصعب توقّع تبعاته الاقتصادية والسياسية على المنطقة.
تبدو الاحتجاجات اللبنانية الحاليّة استشعاراً بالهاوية التي يهبط إليها لبنان،
ومحاولة لوقف هذا التدهور، ومن المتوقع من الطبقة السياسية اللبنانية، على اختلاف
توجهاتها السياسية، أن تحاول أيضاً، وعلى طريقتها، منع هذا الهبوط عبر خطط
إصلاحيّة مؤقتة، وكذلك منع اتجاه الاحتجاجات إلى حالة ثورية تكسر الهويات الطائفية
وتقود البلد نحو الفراغ.. فما ستؤول إليه الأمور؟ بانتظار ردة فعل المتظاهرين على
بيان الحكومة وورقة الإنقاذ الاقتصادية.