وصل عالم الاقتصاد اليوم إلى منعطف مهمّ على عدة أصعدة، من المتوقع أن يفرض تأثيرات عميقة على المستثمرين والأسهم العالمية. فقد انتهت حقبة العولمة التي سادت منذ مطلع ثمانينات القرن العشرين؛ ويتجلّى ذلك من خلال حالة التفاوت الاقتصادي الراهنة، والاختلالات الهائلة على مستوى البيئة الاقتصادية والاستثمارية وقطاع الائتمان وسلسلة التوريد العالمية.
المستثمرون يشترون الأسهم بناءً على الخطط التدخليّة للاحتياطي الفدرالي
تواصل المؤشرات الرئيسية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حول الاقتصاد العالمي انخفاضها، حيث شكّلت النتائج المُسجّلة في شهر أبريل الانخفاض الشهري السابع عشر على التوالي. ولا يزال الاقتصاد العالمي في أضعف نقطةٍ له منذ شهر يوليو 2008، وسط تزايد الاحتمالات بحدوث موجة ركود، بدون أن يظهر ذلك بشكلٍ كامل في تقييمات الأسهم. من جهة ثانية، تُظهر كوريا الجنوبية، التي تُعد أكثر الاقتصادات العالمية انضباطاً، بوادر ضعفٍ لافتة ترافقت مع انخفاض مؤشراتها الرئيسية لمدة 23 شهراً متتالياً خلال شهر أبريل، بالإضافة إلى الهبوط نحو مستويات غير مسبوقة منذ مطلع عام 2012. وقد كان الاقتصاد الكوري الجنوبي أحد أفضل المؤشرات حول الاقتصاد العالمي، ولذلك نتوقع مواجهة المزيد من المصاعب خلال النصف الثاني من العام الجاري.
وكانت الصين الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي سجل مستويات إيجابيّة بحسب المؤشرات الرئيسية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ولم يشكّل ذلك مفاجأة كبيرة بالنظر إلى التحسن الكبير الذي شهدته الصين مؤخراً على صعيد دوافع الائتمان وإن كانت لا تزال سلبيةً. وجاء تحسن القطاع الصناعي الصيني مدفوعاً بسلسلةٍ من إجراءات دعم وطنية اتخذتها الحكومة، والتي يُتوقع أن تسهم في دعم الطلب المحلي أكثر من مستويات الطلب العالمي. ومن ناحية أخرى، لا تزال مبيعات سيارات الركّاب في الدولة (والتي تعمل كمؤشرٍ بديل للقطاع الاستهلاكي) أضعف مما كانت عليه خلال أدنى مستويات الأزمة المالية، ما يؤكد على اتساع حالة انعدام اليقين بين المستهلكين الصينيين. كما وتُظهر بيانات شهر مايو أن مؤشر نمو المبيعات قد تراجع مجدداً.
إلى جانب ذلك، يشير الواقع الاقتصادي الراهن إلى حدوث ركودٍ في الأرباح على مستوى قطاع الشركات العالمية، بالإضافة إلى تصاعد حرب التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين، واحتمالات ارتفاع تكاليف الإيرادات للشركات في ضوء ’السياسات الخضراء‘، فضلاً عن تزايد انتقاد مظاهر التفاوت الاقتصادي، وهو ما سيؤدي إلى نمو أجور العمل، والتأثير سلباً على هوامش أرباح الشركات. ولعل السؤال الأبرز هو: كيف يمكن للمستثمرين التوفيق بين كل هذه المخاطر وحالة الارتفاع في تقييمات الأسهم؟
لقد كان أداء الأسهم على مر السنوات السابقة أسوأ مقارنةً بالسندات عندما كانت المؤشرات العالمية الرائدة تواصل هبوطها إلى ما دون الاتجاه المُعتاد (وهو ما يُسمى أيضاً بمرحلة الركود)، ولكن هذه المرة استطاعت الأسهم تحدّي التأثيرات السلبية وواصلت ارتفاعها. ولعل التفسير المنطقي الوحيد لذلك هو أن المستثمرين يحرصون على شراء الأسهم استناداً إلى خطط الإنقاذ والتدخل التي يُطبّقها الاحتياطي الفدرالي، ويراهنون بشدّة على انخفاض التضخم واستقرار النمو، وغياب أي بوادر لنشوب أزمة مالية، بالإضافة إلى إمكانية تجنب أي صدمات قد تعصف بسلسلة التوريد العالمية، والتي قد تحدث نتيجة السياسة التجارية الحالية للولايات المتحدة. ونعتقد أن ذلك غير منطقي بالنسبة للمستثمرين، حيث نوصي بشدة بزيادة الحيازات من السندات وخفض نسبة الأسهم؛ والأهم من ذلك ضرورة حرص المستثمرين في الأسهم على عدم التورط في فخ القيمة المُسمّى الأسهم الأوروبية.
وفي ضوء الحفاظ على نسبةٍ منخفضة من الأسهم في المحافظ الاستثماريّة، نوصي المستثمرين على المدى القصير بزيادة الحيازات من الأسهم في أسواق الدول التي تتمتع بالقدرة على مواجهة التقلّبات الدورية مثل كوريا الجنوبية والبرازيل وجنوب أفريقيا وأستراليا والولايات المتحدة وهونج كونج، والتي حققت على مر السنين الماضية أفضل العوائد خلال أسوأ مراحل الركود الاقتصادي. وعلى مستوى القطاعات، نقترح زيادة حيازات الأسهم في قطاعات تكنولوجيا المعلومات وخدمات الاتصالات والمواد والسلع الاستهلاكية الأساسية والعقارات.
الأسهم تواجه أزمة ثقة في المستقبل
تشير تقييمات الأسهم إلى القيمة الحالية للتدفقات النقدية المستقبلية، والتي تعد في الأساس مؤشراً على التدفقات النقدية الحالية وتوقعات النمو ومعدلات الخصم. وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى تبلور اعتبارات خاصة فيما يتعلق بتوليد التدفقات النقديّة على المدى القصير والطويل. وفي ضوء استقرار تقييمات الأسهم عند مستوياتها الحاليّة، يُبدي المستثمرون ثقةً قوية في التدفقات النقدية قصيرة الأجل، خاصة وأنها لا تُسجّل انخفاضاً جوهرياً بشكل مادي، ما يؤكد على رهانهم بعدم حدوث موجة ركود، واستقرار النمو على المدى الطويل. ويتجلّى هذا الاعتقاد القوي في الأسهم الأمريكية التي تعود لمستوياتها المرتفعة من حيث التقييم، وتمر في مرحلة الدورة الاقتصاديّة المتأخرة.
ولايزال احتمال حدوث موجة ركود أعلى بكثير مما تُظهر الأسهم العالمية حالياً، حيث يقدم منحنى العوائد والمؤشرات الرئيسية تحذيرات قوية للمستثمرين. ولكن المعطيات التاريخية تُظهر غالباً أن الأسهم تشهد حركة صعوديّة رغم الأدلة الواضحة على احتمال حدوث موجة ركود خلال الفترة المقبلة؛ وهذا بالضبط ما نشهده اليوم. ويعتمد المستثمرون اليوم على خطط الإنقاذ والتدخل التي يُطبّقها الاحتياطي الفدرالي كذريعةٍ لشراء الأسهم لأن ذلك من المفترض أن يزيد من علاوة مخاطر الأسهم، ولكن التجارب السابقة تؤكد أن أول خفضٍ في أسعار الفائدة يمثل في كثيرٍ من الأحيان إشارةً موثوقة بأن موجة الركود قادمة لا محالة، وهو ما يقلل التدفقات النقدية قصيرة الأجل ويزيد من التوقعات بشأن العوائد، وذلك بالتوازي مع ميل المستثمرين لتجنب المخاطر. من جهة ثانية، نُلاحظ عدم الالتزام بالتوقعات قصيرة المدى بشكل صحيح فيما يتعلق بالأسهم استناداً إلى توقعاتنا للمرحلة المستقبلية، ولكن نعتقد أن التوقعات طويلة الأجل هي التي تعزز حالة التباين بين الأسهم والواقع الراهن.
ومن المرجح أن تكون توقعات نمو الأرباح على المدى الطويل إيجابيةً للغاية. ونظراً إلى حالات التأرجح الناجمة عن سياسات العولمة والتفاوت الاقتصادي وطبيعة البيئة الاقتصادية وحالة تشبع الديون، من المحتمل أن تواجه الشركات مزيداً من التشريعات التنظيميّة (خاصة شركات التكنولوجيا)، وفرض المزيد من الضرائب المرتفعة على انبعاثات الكربون، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف العمالة وتزايد الإنتاج المحلي بسبب ترسّخ النزعة الوطنية. وستشكّل هذه العوامل تأثيرات سلبية مُعاكسة بالنسبة الشركات، ولكن يمكن موازنة البعض منها عن طريق زيادة الإنفاق المالي، وبالتالي تعزيز النمو الاسمي. ولكن مسار السياسة هذا يُفسح المجال أمام مستويات عالية جداً من التضخم، بالإضافة إلى التضخم المرتفع الناتج عن سلسلة التوريد التي أصبحت تفتقر إلى الترابط العالمي، وهو ما سيمثل بنهاية المطاف ضريبة التضخم التي واجهتها الشركات في سبعينات القرن الماضي.
تكاليف المُدخلات ترتفع بشكل كبير للشركات
شهدت الشركات اتساعاً ملحوظاً في هوامش الربح خلال فترة العولمة الاقتصاديّة واسعة النطاق التي بدأت في مطلع ثمانينات القرن العشرين. وتسجل الشركات العالمية، وخاصة الأمريكية، هوامش الربح الأكثر إيجابية في التاريخ الحديث؛ ويأتي ذلك نتيجة انخفاض تكاليف التمويل، والتدخل الضعيف للنقابات والاتحادات العمالية وضعف تشريعات مكافحة الاحتكار، وتزايد عمليات الرقمنة، بالإضافة إلى انخفاض تكاليف المدخلات المرتبطة بأسعار السلع المنخفضة تاريخياً، وكذلك اليد العاملة الرخيصة في آسيا.
وسرعان ما سيكتشف صناع السياسات قريباً أن السياسة النقدية الحالية تتسم بقدرةٍ متواضعة على تصحيح النمو الاقتصادي في ذروة دورة الديون، وهو ما سيعني بطبيعة الحال الانتقال قريباً نحو الامتداد الطبيعي التالي لإجراءات السياسة التي تُسمّى النظرية النقدية الحديثة، وتعني وجود ترابطٍ أكثر صرامة بين السياسات المالية والنقديّة. ومن المرجح أن تضطر الحكومات إلى زيادة الإنفاق بشكلٍ كبير لسد الفجوة على صعيد البنية التحتية، والتعامل مع التزام المجتمع بتقليل أثر الأنشطة الاقتصادية على البيئة، وأخيراً معالجة مسألة التفاوت الاقتصادي بشكلٍ عام.
ومن المرجح أن تُترجم الزيادة الكبيرة في الإنفاق المالي على شكل ارتفاع في أسعار السلع وتزايد في مستويات التضخم. وستكتسب مسألة التضخم أيضاً زخماً كبيراً من تراجع سلسلة الإمداد والتوريد العالمية لتصبح محليةً أكثر بسبب انهيار الإطار التجاري متعدد الأطراف نتيجة سياسات إدارة ترامب. وستؤدي هذه العوامل إلى رفع تكاليف المدخلات للشركات، الأمر الذي سيدفع هوامش الربح للعودة نحو معدلاتها المتوسطة طويلة الأمد. وسيشكّل ارتفاع التضخم العامل الأكثر ضرراً على مستثمري الأسهم كما حدث خلال فترة السبعينات من القرن الماضي؛ حيث حصل مستثمرو الأسهم على عائدٍ حقيقي سلبي في الفترة بين عامي 1969-1982.
ويواجه المستثمرون فجوات هيكلية كبيرة وعائدات منخفضة متوقعة في معظم فئات الأصول، بالإضافة إلى التقلبات المتزايدة؛ حيث من المرجح أن تتحوّل الضغوط والتقلبات الناجمة عن السياسات النقدية المُطبّقة منذ عام 2008 إلى حالة اختلالٍ أكثر رسوخاً وتناظراً على صعيد هيكلية العوائد والمخاطرة. ونتوقع بعبارة أخرى أن تكون السنوات العشر المقبلة الأكثر صعوبة بالنسبة للمستثمرين، كما قد نشهد توجيه ضربة كبيرة لمنهجيات الاستثمار السلبي أيضاً. ونعتقد أن الفترة الأخيرة افتقرت إلى توافر نقطة بداية إيجابية للاستثمار النشط، حيث تلاشى نهج العمل وحيد الاتجاه الذي ارتبط بإجراءات السياسة النقدية ومظاهر العولمة التي استفادت من أنشطة الاستثمار السلبي. كما ستواجه النماذج القائمة على الحاسوب صعوبات نتيجة الفجوات الهيكلية القادمة، ما يعني استعادة البشر لدورهم كعنصرٍ أساسي في عمليات وأنشطة الاستثمار.