ظل ضعف الاقتصاد الصيني موضوعاً لمناقشات مكثفة فيما يتعلق بالسياسات والاستثمار منذ عام 2015 على الأقل. وفي الآونة الأخيرة، أصبح هدف الصين المتمثل في الحفاظ على النمو السريع وتقليص المديونيات المالية أكثر صعوبة. فبالإضافة إلى المخاوف المحلية المرتبطة بسوء تخصيص رؤوس الأموال والمديونية الضخمة، تواجه الصين الآن العديد من المعيقات الخارجية، ليس أقلها تباطؤ الاقتصاد العالمي والنزاع التجاري الحاد مع الولايات المتحدة.
وفي الواقع، تواصل تراجع النمو في الصين. ففي الربع الأخير، أبرزت أرقام نمو الناتج المحلي الإجمالي أضعف قراءة (6.2% على أساس سنوي) منذ أن بدأ نشر هذه البيانات في عام 1992. علاوة على ذلك، ظلت نتائج استطلاعات الأعمال التجارية الرئيسية، مثل مؤشر مديري المشتريات الصناعي والطلبات الجديدة، تراوح ما دون خط الكساد.
ولكن ليس كل شيء بهذه الكآبة والقتامة في الصين. إن إلقاء نظرة فاحصة على المؤشرات الرئيسية الأخيرة يشير إلى وجود تفاوت في مؤشرات المشهد الاقتصادي، بما في ذلك بروز مؤشرات هامة على استقرار النمو. يتناول تحليلنا العوامل الثلاثة التي توفر أرضية أكثر صلابة للتوسع الاقتصادي المستمر في الصين.
أولاً، على الرغم من الأرقام الضعيفة على أساس سنوي، يبدو أن الاقتصاد الصيني يتجه نحو الاستقرار. فوفقاً للبيانات الصادرة عن المكتب الوطني الصيني للإحصاء، يشهد الطلب حالياً ارتفاعاً على أساس ربعي معدل فصلياً، بنمو نسبته 6.6% في الربع الثاني من عام 2019 مقابل نمو بنسبة 5.7% في الربع الأول و6.1% في الربع الأخير من عام 2018. وتنسجم هذه النتائج مع المفاجآت الإيجابية الأخيرة في بيانات الإنتاج الصناعي ومبيعات التجزئة. كما أن مؤشر مديري المشتريات المركب، الذي يتضمن كلاً من الصناعات والخدمات، في المنطقة التوسعية بفضل قوة نشاط الخدمات. وتقترب ثقة المستهلك من أعلى مستوياتها على الإطلاق، ومؤشر مناخ الأعمال عند أعلى مستوياته منذ عام 2012. كما لا تزال استثمارات الأصول الثابتة متماسكة بشكل جيد، وحققت أسواق الأسهم نتائج أعلى بكثير من المستويات المتدنية لأواخر العام الماضي.
ثانياً، رغم احتدام الحرب التجارية وضعف قطاع الإلكترونيات، هناك إشارات مبكرة على استقرار الطلب الخارجي على السلع الصينية. فبعد عدة أشهر من الركود، بدأ متوسط 3 أشهر لصادرات اقتصادات شرق آسيا التي تصدر تقاريرها مبكراً (اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان) في التحسن. ويشمل ذلك صادرات تلك الاقتصادات إلى الصين. وتعد اقتصادات شرق آسيا ذات التقارير المبكرة من المصدرين الرئيسيين للمدخلات الصناعية الوسيطة إلى قطاع التصدير الصيني وتتأثر بطريقة غير مباشرة بالتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. ورغم تراجع صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بصفة مستمرة منذ شهر ديسمبر من العام الماضي وفرض تعاريف جديدة، قد ترتفع صادرات الصين إلى الولايات المتحدة مع استنفاد المستوردين الأمريكيين لمخزوناتهم من السلع الصينية. ويُرجح أن الصين تواجه الآن انعكاساً لما يُعرف بتأثير التخزين الاستباقي للحرب التجارية مع الولايات المتحدة، أي قيام الشركات المتواجدة في الولايات المتحدة بزيادة وارداتها من الصين في العام الماضي لتخزينها قبل دخول التعاريف الجديدة حيز التنفيذ. وبالإضافة إلى ذلك، تشير الدراسات الأخيرة الصادرة عن المكتب القومي الأمريكي للأبحاث الاقتصادية إلى أن مجمل تأثير زيادة التعاريف وقع على عاتق الشركات والأسر الأمريكية، لا على المصدرين الصينيين.
نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للصين
ثالثاً، تتمتع الحكومة الصينية بحيز كبير لتقديم مزيد من الدعم للاقتصاد من خلال السياستين المالية والنقدية. ففي جانب السياسة المالية، أطلقت الحكومة بالفعل عدداً من المبادرات التي يمكن توسيعها، بما في ذلك تخفيض معدلات ضريبة القيمة المضافة وضرائب الضمان الاجتماعي إلى جانب تقديم تخفيضات ضريبية خاصة للأسر. كما قامت الحكومة أيضاً بزيادة الحصة المخصصة للإصدارات الخاصة من السندات لتمويل استثمارات الحكومات المحلية في البنية التحتية. وهناك حيز كبير لزيادة التحفيز عند الضرورة. ويشكل إجمالي دين الحكومة المركزية الصينية وإجمالي دين الحكومة العامة 16.9% و50.5% من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي. وتجدر الإشارة إلى أن التدابير المالية الأخيرة تركز على تخفيف العبء الكبير الذي تخلفه الضرائب والرسوم على القطاع الخاص الصيني، وهو ما يتطلب زيادة كفاءة تخصيص الموارد ودعم القطاعات الأكثر إنتاجية.
على الجانب النقدي، يتمتع بنك الشعب الصيني بحيز أكبر لتخفيف السياسة النقدية بسبب الانخفاضات المتوقعة في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة والتيسير الذي يسود في السياسات المالية العالمية بشكل عام. ومع ذلك، لا نتوقع من الحكومة خفض سعر الفائدة الرسمي أو معدل الإقراض القياسي لمدة عام. ومن المرجح أن تتبع الحكومة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من خلال خفض معدل إعادة الشراء العكسي للسوق المفتوحة بهدف تخفيف الظروف المالية في سوق ما بين البنوك. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يلجأ بنك الشعب الصيني لاستخدام أدوات كمية وإدارية لزيادة المعروض النقدي وتوجيه المزيد من القروض إلى قطاع الشركات الخاصة بدلاً من القطاع المملوك للدولة المتضخم سلفاً. وبشكل عام، وفي ظل عدم وجود تصعيد حاد للنزاعات التجارية والاقتصادية مع الولايات المتحدة، فإننا لا نتوقع تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي على أساس سنوي في الصين إلى أقل من 6.0% تقريباً لفترة زمنية طويلة. وإذا برزت مخاطر خارجية، فإن لدى الحكومة الصينية مساحة مالية ونقدية كافية لتقديم معالجات ناجعة.