مجلة كيو بزنس Q Business Magazine:
في وقت مبكر من هذا العام، على الرغم من إبرازنا لصورة قاتمة للنمو العالمي واستمرار المخاطر السياسية، كنا قد أشرنا إلى أن الأسواق الناشئة مهيأة لدخول عام 2019 في وضع إيجابي. وقد كانت الأسواق الناشئة، في الواقع، تستفيد في ذلك الوقت من عوامل عالمية داعمة بقوة، بما في ذلك تحول بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى نهج متساهل، والهدنة في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والقوة المعتدلة للدولار الأمريكي، واستقرار أسعار السلع.
لقد تحققت توقعاتنا على أرض الواقع. فمع تحسن المعنويات، اندفعت رؤوس الأموال نحو الأصول ذات المخاطر العالية بشكل عام وأصول الأسواق الناشئة بشكل خاص. ووفقاً لمعهد التمويل الدولي، زادت تدفقات المحافظ غير المقيمة إلى الأسواق الناشئة من متوسط شهري قدره 16 مليار دولار أمريكي في عام 2018 إلى 32 مليار دولار أمريكي في النصف الأول من عام 2019. وقد ساهم ذلك في تحقيق مكاسب كبيرة في مختلف فئات أصول الأسواق الناشئة، بما في ذلك ما يزيد عن 10% في إجمالي العائد في النصف الأول من العام لكل من الأسهم (مؤشر MSCI EM) والسندات (مؤشرJ.P. Morgan EMBI Global ) غير أن الظروف العالمية قد ساءت بالنسبة للأسواق الناشئة في الصيف، حيث تحولت المعنويات فجأة مع تفاقم عدم اليقين فيما يتعلق بالسياسات وبروز المخاطر. بمعنى آخر، إذا كانت البيئة التي تشجع تحمل المخاطرة قد تسببت في خلق رياح مواتية، فإن الانعكاس المفاجئ للمعنويات ينتج الآن تأثيرات معاكسة.
في أغسطس 2019، أوضحت تقارير معهد التمويل الدولي خروج 14 مليار دولار من المحافظ غير المقيمة من الأسواق الناشئة، وهو أول رقم سلبي منذ أكتوبر 2018، والأسوأ إلى حد بعيد منذ نوفمبر 2016. سيتعرض تحليلنا إلى الأسباب الأربعة وراء هذا التغيير المفاجئ في مزاج المستثمرين وتدفقات رؤوس الأموال.
أولاً، أثرت التطورات السلبية في المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة والصين بشدة على معنويات المخاطرة، مما أدى إلى زيادة تقلبات الأسعار والمستوى العام للضغوط في أسواق المال والسندات والأسهم. وفي حين بات المستثمرون الآن أكثر خبرة بسبب المد والجزر في المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، يبدو أن المرحلة الأخيرة من التصعيد قد أوضحت إجماعًا أكثر تشاؤمًا بشأن آفاق التوصل إلى اتفاق تجاري. وعلى نحو هام، بدأت الأسواق في التسعير على أساس مخاطر اندلاع حرب عملات شاملة، خاصة بعد أن صنّفت وزارة الخزانة الأمريكية الصين “كمتلاعب بالعملة”، في أعقاب انخفاض قيمة اليوان الصيني إلى ما دون المستوى المهم نفسياً 7.00 مقابل الدولار الأمريكي. ويؤدي سلوك تجنب المخاطرة إلى تفضيل الأصول الآمنة (الذهب، سندات الخزانة الأمريكية، الين الياباني، الفرنك السويسري) على حساب أصول الأسواق الناشئة. علاوة على ذلك، فإن الاضطرابات في التجارة العالمية أو في نمو الصين تهدد بشكل خاص المصدرين الآسيويين والمصدرين للسلع الأساسية. ثانياً، تلاشت الآثار الإيجابية الناتجة عن تحول بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى موقف متساهل مع استمرار دعم السلطات النقدية الأمريكية لإجراء تخفيف حذر أو “تعديل في منتصف الدورة”، مما خيب آمال المستثمرين الذين يستثمرون بقوة في السندات. ويشكل تباين وجهات النظر بين أسواق السندات والسلطات النقدية عاملاً معيقاً بالنسبة إلى الأسواق الناشئة. وعادة ما تؤدي التعليقات المتشددة من مسؤولي مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى مفاجآت سلبية، وتشدد الظروف المالية، ووضع الضغط على الأصول ذات المخاطر العالية. ونظرًا لعدم وجود إجماع بين السلطات النقدية الأمريكية العليا حول مسار أسعار الفائدة، فإن بنك الاحتياطي الفيدرالي يستمر في السير وراء المنحنى، أي أنه يتصرف بشكل تفاعلي بدلاً من أن يكون استباقياً. وتؤدي حالة عدم اليقين هذه بشأن السياسة النقدية إلى مضاعفة التغييرات المفاجئة في المعنويات.
ثالثاً، بلغت العوامل الدافعة الناتجة عن أسعار السلع ذروتها بالفعل، وهو ما يشير إلى ضغط إضافي على الأسواق الناشئة المنتجة للسلع من خلال تدهور ديناميات المالية العامة والتبادل التجاري والحساب الجاري. وفي حين لا يزال مؤشر بلومبيرغ للسلع مرتفعاً بنسبة 2.6% حتى الآن في عام 2019، إلا أن المؤشر الكلي تأثر بشدة بأسعار الذهب والفضة والنفط الخام. فقد ارتفعت المعادن النفيسة بنسبة 14% في السنة حتى الآن لأن عدم اليقين العالمي يدفع نحو أصول الملاذات الآمنة. وتعتبر أسعار النفط الخام مرتفعة بسبب تعافيها بسرعة من المعدلات المنخفضة التي بلغتها في ديسمبر 2018. وقد تضررت أسعار السلع، باستثناء النفط والمعادن النفيسة. وانخفضت أسعار السلع الزراعية (البن، والذرة، والقطن، وفول الصويا، والسكر، والقمح) بأكثر من 10% في عام 2019، في حين تراجعت أسعار السلع الأساسية بنسبة 8% من مستوياتها المرتفعة لشهر مارس.
رابعاً، ظهرت مجموعة من المخاطر غير الاعتيادية في الأسواق الناشئة في الأسابيع الأخيرة، وهو ما يزيد من حدة المخاطر العالمية التي تعتبر سلفاً مرتفعة ومتزايدة (الخلافات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، وعدم اليقين بشأن التجارة العالمية، وعدم التوصل إلى اتفاق بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). وقد أدى ذلك إلى زيادة في سلوك تجنب المخاطرة وسرع من عمليات البيع في الأسواق الناشئة. وتتضمن المخاطر غير الاعتيادية المرتبطة بالأسواق الناشئة التوترات الاقتصادية بين اليابان وكوريا الجنوبية، والانهيار الاقتصادي للأرجنتين، والتوترات المتصاعدة بين الهند وباكستان، والتظاهرات الحاشدة في هونغ كونغ، وردود الفعل البيئية العالمية التي تقودها فرنسا ضد البرازيل. وإجمالاً، نرى أن المخاطر قريبة المدى التي تهدد الأسواق الناشئة لا تزال تميل إلى الجانب السلبي. وتشمل القضايا التي ينبغي مراقبتها المفاوضات بين الولايات المتحدة والصين، وسعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الرنمينبي الصيني، واحتمال قيام بنك الاحتياطي الفيدرالي بتشديد مفاجئ لأسعار الفائدة. وفي حال انحسرت المخاطر العالمية بقدر أكبر، ستستفيد الأسواق الناشئة من الارتفاع السريع في إقدام المستثمرين على المخاطرة. لكننا لا نتوقع حدوث تحسن جوهري في أوضاع المخاطر العالمية. ونرى بأن تعاقب الأحداث السلبية والإيجابية سيستمر في خلق تقلبات، وهو ما سيؤدي بدوره إلى نمط من التذبذب في إقبال المستثمرين على المخاطرة وفي تدفقات رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة.