مجلة كيو بزنس Q Business Magazine:
عندما أردت الدخول إلى الجامعة بعد تخطّي المرحلة الثانوية، أحببت أن أنضم إلى كلية تُلبي طموحات شاب شغوف يريد أن يخترق السحاب، وكانت كلية الإعلام هي المحببة إلى قلبي، لما كنت أعتقده بأن من يملك قلماً يستطيع أن يغزو العالم.. كنا ننظر إلى الصحافة بأنها تلك السلطة التي تحمي المجتمع من أيّ شيءٍ يُساهم في إيذائه وتشويهه سواء من أفكار هدامة وسلوكيّات منحرفة ومشبوهة، أم من خلال كشف الحقائق المُستترة التي تساعد الأفراد على الاستنارة بطريقها.. أيضاً وأن تجعل العالم قريةً صغيرةً من خلال انتشار الأخبار بين جميع أنحاء العالم ليعلم أفراد دولةٍ معينةٍ أخبار دولةٍ أُخرى.. ولكن يبدو أن كل هذه الأحلام كانت قيم ورقية فقط.
كنا نحب تميّز الصحافة المكتوبة عن غيرها كونها تنطق بالكلمة الحق، ولتبقى صدىً واسع الأفق تمنح القارئ القدرة على الرجوع إليها وقراءتها متى أراد ذلك، لتُنير طريق العلم لمن يطلبه، وتُسلّط أضواءها على الإيجابيّات والسلبيّات الظاهرة في المجتمع، ليعمَد المسؤولون إلى إكمال النواقص وإصلاح الاعوجاج الحاصل، وليُتقن كلّ عاملٍ عمله وتعود الفائدة على الجميع.. لم نكن نعلم بأنه سيأتي يوم وتندثر فيه الكلمة.
كانت الصحافة تُعبّر عن حاجات الأمم وآراء شُعوبها، وكانت تنشر أخبار البلاد وأحوالها وإنجازاتها، ومن خلالها يتمّ تقديم النُصح والإرشاد لأفراد المجتمع، بل وكانت هي الوسيلة التي تنشر أفكار وتوجهات الدول وتعليماتها ومواقفها من الأحداث المستجدة، ما يُسهّل بذلك معرفة توجُّهات دولة ما وتعليماتها عن طريق صحافتها؛ حيث إنّ لكلّ دولةٍ من الدول صحيفة خاصة بها تنطق باسم حكومتها وتُعبّر عن رأيها. كانت الصحافة تُسلّط الضوء على القضايا المهمّة في العالم خاصةً في حالات النزاعات والثورات والحروب، إضافةً إلى الأحداث السياسيّة التي تستجدّ يومياً، كما أنّها تُلاحِق الأشخاص الفاسدين وتُثير القضايا العامة التي تهمّ كافة الأفراد؛ إذ لا يقتصر عمل الصحافة في مجال معين، فهي جامعة لمختلف المجالات التي يهتمّ بها المواطنون، ولكن اليوم أصبحت أداة بيد أصحاب القوى ليطلقونها نحو أعدائهم ليكسبوا بذلك مرابح مادية وسياسية.
كان دور الصحفي في المجتمع كمهمّة ولكن من أصعب المهمّات؛ حيث تُحيط به الكثير من المخاطر رغم أنّها مهمّة نبيلة، فالصحفي كالرقيب الذي يترصد الأحداث ويكتشف الحقائق لإيصالها إلى الرأي العام دون تشويه، فيواجه كل ما يعترض طريقه من مشكلاتٍ ومخاطر في سبيل أداء دوره على أكمل وجه، ولتحقيق ما يصبو إليه من كشف الحقائق وخدمة الجمهور والرأي العام وأداء مهامه بشكلٍ سليم، لذا كان لا بدّ أن يكون واعياً ومثقّفاً ولديه الخبرة الكافيّة لكتابة ما يحصل عليه من معلومات بطريقةٍ حياديّةٍ ونزيهة، وأن يأخذ بعين الاعتبار مصالح أمةٍ بأكملها وليس مصالح جماعة مُعيّنة. أما اليوم فيكفي أن يكون ممّن يدعي أنه “صحفي” محسوباً على طرف أو جماعة أو شخص ليتصدر المشهد والأحداث.
على منتحلي صفة “صحفي” وقبل أن يفكر بإظهار مواهبه للعالم أن يحمل قضيّةً معيّنةً نَصب عينيه ويسعى للوصول إلى الحقائق، وأبرز ما يجب أن يتحلّى به هو أن يحافظ على شروط مهنته ويتّبعها، وأن يلتزم بالمبادئ العامة لها ومعاييرها، كما أنّ هناك مجموعة من الحقوق التي يجب ضمانها للجمهور، ولذلك يجب منح الصحفي قدراً عالياً من الحريّة ليتسنى له التفكير بشكلٍ جيّدٍ والإبداع فيما يُنتج. وليقوم بعمله على أكمل وجه عليه الابتعاد عن قضايا التّشهير والقضايا التي تمسّ كرامة الإنسان باستثناء تلك التي تتعلق بالسّرقة والفساد وتُفكك بنية المُجتمع. كما عليه الالتزام بأُمور الدّقة والعدالة والحفاظ على المسؤوليّة الاجتماعية، مع الحرص على كشف المصادر ما لم يوجد أيّ مانع أو سبب واضح وصريح للكشف عنها. وكذلك عليه عدم التعدّي على حق الجمهور في حصوله على الأخبار المُستجدّة حتى إن كانت ضمن ميوله، واحترام عادات وتقاليد المجتمع إضافةً إلى القيّم والعقائد المُتّبعة.. وأحد أبرز ما يجب عليه القيام به هو احترام حقّ الجمهور في مناقشة القضايا وإبداء رأيه فيها، حتى لو كانت مخالفة لرؤيته وتوجهاته فللجمهور الحقّ في الاستفسار عن المعلومات المنشورة والمصادر المتعلقة بها.
لن تتسع مقالة من عشرات الكلمات لوصف كيفية بناء صحفي مهني، فالعمل الصحفي يحتاج لدراسة وتدريب وتوجيه، ولكن أردت إلقاء الضوء على هذه المهنة التي أصبحت مستباحة، ولم يعد للصحفي الحقيقي مكان، في دنيا المال والأعمال حيث للمصالح الشخصية والمادية اليد الطولى في إبراز إعلامي وتعميم أخر، رغم أننا نعيش في سماء التطور الرقمي والفضاء الإلكتروني.