بيروت – اتخذ القضاء اللبناني إجراءات جديدة تجاه مصارف تجارية عنوانها استرداد المودعين لأموالهم المحتجزة، وتزامن ذلك مع صراع سياسي محموم بين مدافعين عن الإجراءات القضائية ورافضين لها، وتجلّت أخيرا بالحجز على أحد أكبر البنوك اللبنانية، وإيقاف شقيق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة.
وتتوالى الإجراءات القضائية المحلية بوتيرة متسارعة بحق المصارف والمصرفيين وحاكمية مصرف لبنان، توازيها تحركات قضائية دولية استنادا إلى دعاوى رفعها مودعون وجمعيات، وآخر فصولها قرار المحكمة البريطانية بإلزام مصرفين لبنانيين هما “بنك عوده” و”سوسيتيه جنرال” دفع 4 ملايين دولار لأحد المودعين البريطانيين؛ وهو ما رد عليه بنك عودة بإغلاق عشرات الحسابات العائدة للبنانيين يحملون الجنسية البريطانية أو أقارب لهم.
آخر التطورات القضائية
وأوقفت المدعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون، يوم الخميس، رجا سلامة شقيق حاكم مصرف لبنان على ذمّة التحقيق، على خلفية إخبار مقدم بحقه، بجرم تبييض أموال وإثراء غير مشروع، على حساب خزينة المركزي.
وقالت القاضية عون -التي يتهمها معارضون بالعمل لمصلحة فريق رئيس الجمهورية ميشال عون- إن هناك عقارات في فرنسا تعود لرياض سلامة قدّرت بنحو 12 مليون دولار، وإن شراءها كان باسم شقيقه رجا.
وقبل ذلك، أصدرت رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت القاضية مريانا عناني قرارا قضائيا بحق مصرف “فرنسبك”، قضى بتنفيذ الحجز على جميع أسهمه وعقاراته وموجوداته وفروعه في كل لبنان، تمهيدا لطرحها بالمزاد العلني، بسبب امتناعه عن تسديد كامل الوديعة المالية العائدة لأحد المودعين المدّعين.
ولاقى القرار ترحيبا شعبيا واسعا، ووضعه كثيرون في خانة نصرة القضاء للمودعين الذين تحتجز المصارف اللبنانية أموالهم منذ نهاية 2019 بإجراءات غير قانونية وتقتطع نسبا عالية من قيمتها استنادًا إلى تعاميم المركزي.
ووصفت جمعية المصارف قرار القاضية عناني بالممارسات التعسفية. وبدا لافتًا الموقف السياسي لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي قال لأربعاء إن ما يحدث بالملف المصرفي غير سليم، ووصفه بـ”الطريقة الاستعراضية والبوليسية”، ورأى أن المودعين سيدفعون الثمن مجددا، معلنا أن “الملف سيكون موضع متابعة من وزير العدل لوضع المعالجات على السكة الصحيحة”.
ويأتي هذا التصعيد بعد أسابيع على قرار القاضية عون بوضع إشارة منع تصرف على العقارات والمركبات والأسهم وحصص رؤساء وأعضاء مجالس إدارات عدد من المصاف اللبنانية، مع منعهم من السفر، كما يعقب ذلك أيضا إصدار القاضية عون مذكرة إحضار بحق حاكم المصرف المركزي الذي لم يمثل أمامها حتى الآن، على خلفية شكاوى مقدمة ضده من قبل ناشطين يتهمونه بالإثراء غير المشروع، وتبييض الأموال، وتبديد المال العام.
وتنعقد الحكومة اللبنانية غدا السبت بدعوة من رئيسها ميقاتي، للبحث بالإجراءات القضائية التصعيدية ضد حاكم المركزي وعدد من المصارف التجارية.
وتوازيا، أعلنت جمعية المصارف اللبنانية اليوم الجمعة الإضراب التحذيري يومي الاثنين والثلاثاء المقبلين.
وأشارت الجمعية -في بيان- إلى أن هذا “إضراب تحذيري ضد التعسف في تطبيق السياسات المالية، وأن المصارف اللبنانية لم تعد تحتمل القرارات التعسفية التي تتناولها، في وقت تحاول قدر المستطاع تجنب نتائج السياسات المالية بعد أن أدت هذه السياسات إلى هذا التدهور، إذ يمتنع المدينون للمصارف والدولة اللبنانية ومصرف لبنان عن تسديد ما يجب عليهم من مستحقات وتحمّل مسؤولياتهم تجاه المصارف والمودعين”.
تصعيد المودعين
وبالموازاة، يكشف الباحث نزار غانم -أحد مؤسسي رابطة المودعين- عن إجراءات تصعيدية ستتوالى لاحقا، وعن تحضير لملفات دعاوى باسم مئات المودعين الذين تحمسوا لخوض المعركة قضائيا ضد المصارف.
ويشير إلى ترقب المودعين لقرارات قضائية جريئة تكرس حقوق استرداد أموالهم المحتجزة، ويقول إذا “كانت المصارف مفلسة فلتتحمل خسائرها وترد الاموال لأصحابها”.
لكن المعضلة الأساسية التي تواجه المودعين، حسب غانم، هي أن “السلطة تحمي مصارف بحكم المفلسة سعيا لتحميل المودعين أكبر قدر من الخسائر”.
وقال إن رابطة المودعين طرحت حلا يعتمد على خطة شركة “لازار” للاستشارات المالية، على قاعدة حماية جزء كبير من الودائع الصغيرة والمتوسطة، مقابل اقتطاع وتسييل الودائع الكبيرة وحصص المساهمين بالمصارف.
ويضيف أن التصعيد القضائي سيدفع إلى تكتل عدد كبير من المودعين الذين يطالبون بالحجز على أصول المصارف إذا لم ترد ودائعهم، ويعبّر عن خشيتهم على مشارف الانتخابات من “توفير غطاء سياسي لفساد المصارف مقابل تحميل الكلفة للفئات المهمشة”.
إشكالات وتحديات
ويمر لبنان بظرف مالي واقتصادي دقيق، وهو على مشارف التمهيد للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الذي يفرض شروطا صارمة لمساعدة لبنان، بينها هيكلة القطاع المصرفي، وتوحيد وتحرير سعر صرف الدولار، والتوزيع العادل للخسائر، وهي مسائل لا تلقى أي توافق داخلي، برأي كثيرين، كونها تمس بمصالح النخبة الحاكمة في السلطتين السياسية والنقدية.
ومقابل ذلك، يتخبط اللبنانيون بتعددية أسعار صرف الدولار ومضاربات السوق النقدية حيث تحكمها 3 أقطاب رئيسة: مصرف لبنان والمصارف التجارية والتجار. ويخشى كثيرون أن يقود الصراع القائم إلى قفزة جديدة في سعر صرف الدولار الذي بلغ أخيرا بالسوق الموازية نحو 22 ألفا و500 ليرة.
وترى الصحفية المتخصصة بالشأن الاقتصادي عزة الحاج حسن أن الأزمة الفعلية بدأت مع اتخاذ المصارف إجراءات غير قانونية، وكلها باتجاه الاعتداء على حقوق المودعين وتهميش دور القضاء وتسييس قراراته.
وأكدت الصحفية أن كل حكم قضائي نافذ بالحجز على مصرف تجاري لا يعني خسارة مودعيه لأموالهم، بل سيكون لمصلحتهم على المدى المتوسط والبعيد.
وقالت للجزيرة نت إن أي حل يبدأ بضبط ممارسات المصارف التعسفية، وأن “يُعلن إفلاس كل مصرف غير قادر على سداد ودائع زبائنه، تمهيدا لإعادة هيكلة القطاع”.
من جانبه، يدعو رئيس قسم البحث والتحليل الاقتصادي في “بنك بيبلوس”، نسيب غبريل، للعودة إلى جذور الأزمة بعد التراجع الحاد لتدفق رؤوس الأموال، حين ظهرت في خريف 2019 أول مرة سوق موازية لسعر صرف الدولار.
وذكّر -عبر الجزيرة نت- بأن المصارف طالبت سابقا بإقرار قانون تنظيم الرساميل (كابيتل كونترول)، ولو نفذ -برأيه- لما وصل المودعون إلى واقعهم اليوم.
ويرى أن الذي أساء إلى سمعة لبنان المالية هو قرار الحكومة السابقة في مارس/آذار 2020 بالتعثر لأول مرة عن سداد سندات الخزينة “اليوروبندز”.
وقال إن إنصاف المودعين ضرورة، “لكن هذا المسار القضائي سيلحق الضرر بالجميع” على حد تعبيره، داعيا لوضع مشروع إصلاحي شامل.
في المقابل، ترجح الصحفية عزة الحاج حسن مواصلة التصعيد القضائي ضد المصارف، وتستبعد أن يؤثر سلبا على المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، “لأن القضاء يلعب دوره الحقيقي باسترداد حقوق المودعين والتحفيز على إعادة هيكلة القطاع المصرفي”.
لكنها تتوقع لجوء السلطة السياسية إلى ردود مضادة قد تقوّض المسار القضائي، من دون قدرتها على قمعه، نظرا لحساسية الموقف أمام المجتمع الدولي والمحاكم الخارجية الناظرة في دعاوى تتعلق بمصارف ومصرفيين ومتمولين لبنانيين.